04.01.2024

الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي: دور الذكاء الاصطناعي في إحداث نقلة نوعية في جميع القطاعات

في غضون فترة قصيرة، سيّطر الذكاء الاصطناعي التوليدي على ميادين الابتكار وأصبح من التقنيات الأكثر قدرة على إحداث تحوّلات هائلة في عصرنا الحالي، إذ سيساهم الذكاء الاصطناعي من دون شك في إعادة تشكيل مختلف القطاعات، من الترفيه مرورًا بالتعليم وحتى الرعاية الصحيّة، كما سيغيّر أساليب العمل والحياة وسبل تفاعلنا مع العالم من حولنا. 

ويزداد التأثير الواسع للذكاء الاصطناعي وضوحًا يومًا بعد آخر، ومن المتوقع أن يمس جميع جوانب الحياة، بدايةً من مكان العمل وحتى التعاملات اليوميّة. وفي حين ما تزال هناك مخاوف أن يحل الذكاء الاصطناعي محل الإنسان في الوظائف، إلا أن الصورة الأكبر تبشّر بتأثير أكثر إيجابية لتقنياته. وباعتباره محركًا قويًا للإنتاجية، من المتوقع أن يحفّز الذكاء الاصطناعي عملية تكوين الثروات ويفتح مجالات جديدة حافلة بالفرص الواعدة. فمن خلال تعزيز الأدوار والمهام ودعمها، يتيح للأفراد ميزة إنجاز المزيد في وقت أقل. وعليه، فإن تبنّي طاقاته التحويليّة يقتضي التزامًا جماعيًا بتطوير مهاراتنا ومواءمة قدراتنا، والاستعداد جيّدًا لتسخير إمكانيات الذكاء الاصطناعي بفاعلية والاستفادة منها وتحقيق أقصى أثر ممكن. 

في العام 2022، قُدّر حجم سوق الذكاء الاصطناعي بـ428.00 مليار دولار أمريكي، ومن المتوقع أن تنمو من 515.31 مليار دولار أمريكي في العام 2023 لتصل إلى 2,025.12 مليار دولار أمريكي بحلول العام 2030. وفي النصف الأول من العام 2023، تصدّر الذكاء الاصطناعي المشهد باعتباره الفئة الأسرع نموًا في منصة (Upwork)، والتي تشكّل إحدى أهم منصات العمل الحر الرائدة وأشهرها في العالم. وفي الربع الثاني من العام 2023، شهدت إعلانات الوظائف ذات الصلة بالذكاء الاصطناعي التوليدي نموًا هائلًا على مستوى العالم بلغ أكثر من 1000% مقارنةً بالفترة نفسها من العام السابق، في حين تضاعفت عمليات البحث المتعلقة بالذكاء الاصطناعي بمعدل مذهل بلغ 1500% خلال الفترة ذاتها. ويتوقع المنتدى الاقتصادي العالمي أن يساهم الذكاء الاصطناعي في إتاحة 97 مليون وظيفة جديدة بحلول العام 2025. 

ووفقًا لأحد تقارير شركة مايكروسوفت، يتوقع 82% من قادة الأعمال في العالم أنه سيتعين على الموظفين اكتساب مجموعة مهارات جديدة ليتسنّى لهم تحقيق النجاح والازدهار في “المستقبل القائم على الذكاء الاصطناعي”. ويسلط التقرير الضوء على أهم ثلاث مهارات أقر هؤلاء القادة أنها لا غنى عنها، وهي الحُكم والتقدير التحليلي والقدرة على التكيّف والذكاء العاطفي. وتؤكّد مايكروسوفت أن هذه القدرات لم تعد مقتصرة على الوظائف التقنيّة أو مختصي الذكاء الاصطناعي، بل أصبحت الركيزة الأساسيّة للمهارات التي ينبغي أن يتحلّى بها جميع المهنيون في ظل مشهد الأعمال دائم التطوّر والتغيّر. 

فيما يلي سنستعرض بعض القطاعات على مستوى العالم التي تحرص على إثراء أدائها من خلال توظيف الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن أن يعود ذلك بالنفع على الاقتصاد البحريني. 

الرعاية الصحيّة: نقطة تحول مهمة في التحول الرقمي لخدمات رعاية المرضى 

أصبحت عمليات التشخيص والعلاج أكثر دقة بفضل الذكاء الاصطناعي، كما تشهد الرعاية الطبيّة تحوّلًا سريع الوتيرة لتغدو ذات طابع شخصي حسب احتياجات كل فرد. إذ تستطيع خوارزميات الذكاء الاصطناعي تحليل كميات ضخمة من بيانات المريض لتحديد الأنماط والتنبؤ بنتائج المرض. كما تستفيد خدمات التصوير الطبي، مثل التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) والتصوير المقطعي المُحوّسب (CT)، من الأدوات المزوّدة بتقنيات الذكاء الاصطناعي والتي تساهم في تحسين الدقة وزيادة السرعة. والنتيجة؟ تحسّن نتائج المرضى وانخفاض تكاليف الرعاية الصحيّة. وفي ظل التحوّل الديموغرافي نحو زيادة أعداد الشريحة السكانيّة من المسنين حول العالم، سيؤدي الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًا في الارتقاء بمخرجات خدمات الرعاية الصحيّة وترشيد التكاليف. 

وفقًا لتقديرات شركة ستاتيستا للبحوث (Statista)، بلغ حجم سوق الرعاية الصحيّة القائمة على الذكاء الاصطناعي 11 مليار دولار أمريكي في العام 2021، ومن المتوقع أن تصل إلى 187 مليار دولار أمريكي بحلول العام 2030. وتعني هذه الزيادة الهائلة أننا سنشهد على الأرجح تغييرات جوهريّة في أسلوب عمل مزودي الرعاية الصحيّة من المستشفيات ومؤسسات الصناعات الدوائيّة والصيدلانيّة ومؤسسات التقنيات الحيويّة وغيرها من المؤسسات العاملة في القطاع. 

في العام 2020، اتخذت مملكة البحرين خطوة مهمة من خلال إصدار أول ترخيص لممارسة خدمة التطبيب عن بُعد بالإضافة للقواعد والإرشادات المتعلقة بتقديم هذه الخدمات. وعلاوة على ذلك، يمن المتوقع أن يشهد قطاع الرعاية الصحيّة عن بُعد في البحرين نهضة كبيرة عقب استكمال عملية ربطه بشبكة مستشفى صحة الافتراضي في المملكة العربيّة السعوديّة. وتبشر هذه المبادرة التاريخيّة، والأولى من نوعها في الشرق الأوسط، بتحسّن كبير في خدمات الرعاية الصحيّة في البحرين، من خلال تمكين المواطنين والمقيمين من الوصول بسهولة إلى خدمات طبيّة متطوّرة عن بُعد. 

الشؤون الماليّة: تحسين عملية اتخاذ القرار والأمن 

أثمر دمج الذكاء الاصطناعي ضمن المشهد المالي الديناميكي عن فوائد جمّة. فبدايةً من تحسين عمليات اتخاذ القرار مرورًا بتعزيز الإجراءات الأمنيّة والارتقاء بتجارب العملاء وحتى إتاحة عمليات تداول أكثر كفاءة وفاعلية، نجح الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل القطاع المالي. إذ ساهمت قدرته على تحليل البيانات والكشف عن الاحتيال وتقديم حلول مخصصة في تغيير النهج الذي تتبعه المؤسسات لتقييم المخاطر ووضع إستراتيجيات الاستثمار والتعامل مع العملاء، وهو ما أدى إلى خلق منظومة ماليّة أكثر سلاسة وتجاوبًا. 

يُعد قطاع الخدمات الماليّة في مملكة البحرين أكبر قطاع اقتصادي غير نفطي، إذ ساهم بنسبة 17.5% من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في العام 2022. وعليه، يمكن تطوير خدمات استشارات ماليّة قائمة على الذكاء الاصطناعي لتحسين القدرات التنبؤيّة لمؤسسات الخدمات الماليّة، الأمر الذي يمكّنها من التنبؤ بمتطلبات العملاء بشكل أكثر دقة. كما يمكن أن توفر هذه الخدمات أدوات مُخصصة حسب احتياجات كل عميل، وخدمات دعم عبر روبوتات دردشة تحاكي البشر، وهو ما يساهم في الارتقاء بالتجربة الكلية للعملاء. 

 وعلاوة على ذلك، فإنه من المتوقع أن يؤدي ظهور خدمات الاستشارات الماليّة القائمة على الذكاء الاصطناعي إلى إحداث نقلة نوعيّة في نماذج الأعمال التقليديّة، مما سيؤدي إلى تقديم خدمات أفضل بتكلفة أقل، كما ستصبح عمليات اتخاذ القرار أكثر ذكاءً ودقة، فضلًا عن توفير مجموعة أوسع من الخيارات للمستهلكين. ومن المتوقع أيضًا أن يؤثر هذا التحوّل على العديد من جوانب القطاع المالي، بما في ذلك التداول وإدارة الأصول والادخار وأساليب تقديم خدمات التأمين، وهو ما سيسفر عن نهج أكثر تخصيصًا وسلاسة لإدارة الاستثمار، مع تحسين الكفاءة التشغيليّة وخفض التكاليف في الوقت ذاته. 

الصناعات التحويليّة: تعزيز الكفاءة والأتمتة 

يتبنّى قطاع الصناعات التحويليّة الذكاء الاصطناعي من خلال المصانع الذكية والصيانة التنبؤيّة. إذ تستطيع الآلات المزوّدة بالذكاء الاصطناعي مراقبة أدائها ذاتيًا، وجدولة مواعيد الصيانة عند الحاجة، وتقليل فترات التعطل. كما تستفيد مهام مراقبة الجودة وتحسين سلسلة الإمداد من القدرات التحليليّة للذكاء الاصطناعي، وهو ما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية وتقليل الهدر والنفايات. 

 وفيما يلي عدد من النتائج الرئيسيّة المتعلقة بدور الذكاء الاصطناعي في قطاع الصناعات التحويليّة: 

  • 83% من المؤسسات تؤمن أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي دورًا محوريًا في دفع مسيرة التحوّل الرقمي لديها 
  • 24% من مؤسسات التصنيع تستخدم الذكاء الاصطناعي للتجميع واختبار الجودة 
  • 79% من المؤسسات لديها تقنيات قائمة على الذكاء الاصطناعي المتخصص للتصنيع، أو تقوم بتجريب مشروع في هذا الصدد 

تضم مملكة البحرين قطاعًا راسخًا ومتنوعًا للصناعات التحويليّة يشمل العديد من الصناعات الثقيلة، إلى جانب قطاع الصناعات الخفيفة المتنامي. ويُعد القطاع ثاني أكبر القطاعات غير النفطيّة المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بعد قطاع الخدمات الماليّة، ويعمل به 10% من إجمالي القوى العاملة في القطاع الخاص، مع نسبة بحرنة تبلغ 24.7%. إلى جانب ذلك، أطلقت مملكة البحرين مؤخرًا مبادرة “iFactories” بدعم من وزارة الصناعة والتجارة وصندوق العمل (تمكين)، حيث تهدف هذه المبادرة الوطنيّة إلى دعم تحوّل القطاع الصناعي نحو تقنيات الثورة الصناعيّة الرابعة. 

 هذا ويوفر الذكاء الاصطناعي فرصة قيّمة لتحسين الكفاءات التشغيليّة واستهداف قطاعات التصنيع الأعلى قيمة. بالإضافة إلى ذلك، فإن شبكات الإمداد الرقميّة لديها القدرة على تمكين الاستجابة المرنة ومتعددة المستويات لاضطرابات سلاسل الإمداد. كما يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي المؤسسات على تحقيق أهداف الممارسات البيئيّة والاجتماعيّة والحوكمة الخاصة بها من خلال تعزيز الفاعلية والكفاءة وإرساء عمليات أكثر استدامة. 

النقل والخدمات اللوجستيّة: تمهيد الطريق للمركبات ذاتية القيادة وغيرها المزيد من الابتكارات 

يمكن أن يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعي في قطاع النقل إلى تحسين الحياة اليوميّة بشكل ملموس من عدة جوانب، بدايةً من إدارة حركة المرور بشكل أكثر سلاسة وتعزيز سلامة الركاب وحتى خفض الانبعاثات الكربونيّة. وقد قُدّر حجم السوق العالميّة للذكاء الاصطناعي في مجال النقل بثلاثة مليارات دولار أمريكي في العام 2022، ومن المتوقع أن يصل إلى حوالي 23.11 مليار دولار أمريكي بحلول العام 2032، ليشهد بذلك معدل نمو سنوي مركب نسبته 22.70% على مدى الفترة المشمولة في التوقعات 2023 إلى 2032. 

يتمتع قطاع النقل والخدمات اللوجستيّة البحريني بتاريخ ثري، وذلك بفضل موقع المملكة الإستراتيجي في قلب المنطقة ومكانتها التاريخيّة العريقة كمحور إقليمي بارز للتجارة، كما ساهم بنسبة 6.8% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022. وتستثمر مملكة البحرين في مشاريع كبرى للبنية التحتيّة، والتي من المتوقع أن تسهم في تعزيز نمو هذا القطاع، بما في ذلك مشروع مترو البحرين. 

 كذلك فإن مساحة مملكة البحرين وموقعها الإستراتيجي يجعلانها الوجهة المثلى لاختبار حلول الذكاء الاصطناعي المبتكرة لإدارة حركة المرور. إذ يمكن أن يساعد التنفيذ الناجح لهذه الحلول على تعزيز القطاع اللوجستي بشكل كبير، وذلك من خلال توفير التعديلات المثلى للمسارات وتقليل أوقات الانتظار. ومن المتوقع أن يساهم تبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي في تبسيط العمليات وتسهيلها، إلى جانب خفض تكاليف العمالة إلى حد كبير، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى تحسين الربحية. 

وختامًا، لا شك أن الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل مختلف القطاعات بشكل جذري. وإذ يستمر تقدّم الذكاء الاصطناعي وتطوّره، فإنه من الضروري أن نظل على اطلاع ودراية بتأثيره المحتمل على شتّى القطاعات. لقد بدأت ثورة الذكاء الاصطناعي، وهي تغيّر معالم عالمنا الذي اعتدنا عليه.